في رسالةٍ تُفتِّت الحجر وتُبكي الشجر الأسير العربيّ السوريّ المُحرَّر صدقي المقت: أريد ما تبقّى من أبي.. أرسلني إلى وطني في هذه الدنيا.. بعد انتظار عشرات السنين! غابت النخوة العربيّة واختفت الذاكرة

الناصرة – “رأي اليوم” – من زهير أندراوس:

وجّه الأسير العربيّ-السوريّ المُحرَّر، صدقي المقت، وجّه رسالة إلى الأمّة العربيّة بمُناسبة يوم الأسير الفلسطينيّ، الذي صادف أوّل من أمس الجمعة (17.04.20)، قال فيها: أنا واحد من هؤلاء الأسرى، عشت بينهم عشرات السنين، كان من الممكن أنْ أكون رقمًا آخر يُضاف إلى العدد الإجمالي للأسرى، لافتًا إلى أنّ هذه الأرقام هي أرقام اعتدنا على سماعها كل صباح ومساء، وما عادت تعني لنا شيئًا، مُضيفًا: تحررت مؤخرًا، لا لكي أصمت، وإنمّا كيْ احكي الحكاية، حكاية مَنْ بقوا داخل الأسر، حكاية ما يجري هناك داخل سجون الاحتلال الإسرائيليّ، أنا هنا، كي أصرخ صرختهم، وكي احكي وجعهم، على حدّ تعبيره.

وتابع المقت في رسالته، التي تلقّت (رأي اليوم) نُسخةً منها: أنا قادم من هناك، من معتقلات تعيش خارج الزمن، وخارج العصر والحياة، وخارج القانون، وخارج أي شرعية أخلاقية أوْ إنسانية ، كل شيء هناك مباح أمام الجلاد، يفعل ما يشاء، ولا احد يبالي، يزجّنا بالآلاف داخل المعتقلات ولا احد يسأل، يحاصرنا الجلاد بسياطه وعصيه وأسلاكه وقضبانه وجدرانه العالية، ويحاصرنا النسيان والإهمال والذاكرة العربيّة المفقودة أصلاً، عصي الجلاد تؤلمنا، ويقتلنا أكثر، ذلك الصمت الذي يلفّنا من كلّ جانبٍ.

وأردف المقت: ذهبت النخوة العربيّة وما عاد لها أيّ أثرٍ، والذاكرة العربيّة أخذت البطولة، وتركت صاحبها في الأسر لعشرات السنين، أي انفصام في ذاكرة تُمجّد البطولة وتدفن البطل! أيُّ نخوةٍ تلك، التي تشتعل لدى سماعها نبأ عمليه فدائيه ضد هذا المحتل، وتنطفئ أمام سنوات الأسر الطويلة! أي شعرٍ ذاك الذي يمجّد بطولات المناضلين الفلسطينيين في الوطن المحتل، ويصمت دهرً، أمام ما يلاقيه الأسرى في سجون الاحتلال!

وشدّدّ المقت على أنّ فلسطين ليست مجرد اسمٍ في الهواء، وليست مجرد قضيةٍ معلقةٍ في الفضاء، فلسطين هي الإنسان الفلسطينيّ، هي الأرض الفلسطينيّة، هي الأسير الفلسطينيّ، هي أسرة الشهيد الفلسطينيّ، هي مَنْ هُدّمت منازلهم، ومُنِعوا من الخروج من القرية، ومن أُهينوا وضُربوا على الحواجز، فلسطين هي العمال الذين يقفون بالآلاف على المعابر في منتصف الليل بانتظار فرصة عمل داخل الكيان، فرصة عمل قد تأتي وقد لا تأتي، فلسطين هي العمال الذين يدخلون تهريبًا إلى فلسطين المحتلة عام 48 للعمل في مهن وحرف لا يقبل الإسرائيليّ القيام بها، وفي ظروف تذكّرنا بالعبودية، وإذا ما ضُبط هذا الفلسطيني متلبّساً بجرم “العمل الشريف من أجل لقمة العيش”، يُزج به في سجون الاحتلال، عمال خارج القانون وخارج الزمن وخارج الذاكرة العربية، منسيون، تمامًا مثلنا نحن الأسرى، نعيش خارج الزمن وخارج الذاكرة العربيّة.

ولفت الأسير العربيّ-السوريّ الذي يسكن في قرية مجدل شمس بالجولان المُحتّل، لفت إلى أننّا لسنا أرقامًا في الذاكرة العربية، وإنما للبعض منّا أبناءٌ، وبنات وُلدن في ذات عام الاعتقال، وكبرن، وأصبح عمرهن بعدد سنوات أسر الأب، تحتفل الابنة بعيد ميلادها العشرين، لتتلقّفها الذاكرة، وتصوّب قلبها إلى السجن، ويتحول الاحتفال إلى تراجيديا عشرينية الأسر.

وأوضح المقت: تمضي السنين، وخطط المولود القادم تؤجَّل من عامٍ إلى آخر، اختاروا الاسم، ورسموا مستقبل الطفل القادم، الذي لم يأتِ بعد، لأنّ الذاكرة العربية غيّبت اسم الأب، وأطفأت أنوار حفل الزفاف! 20 عامًا في الأسر، والعدّ التنازليّ لا يتوقّف، وفرص الإنجاب في قلق، العمر البيولوجيّ للإنجاب للزوجة لا ينتظر الذاكرة العربية كي تستيقظ، كلُّ شيءٍ مهدد بالانهيار من حوله، وإنْ لم يأتِ المولود هذا العام فلن يأتي أبدًا. لا بأس من الانتظار عدّة أشهرٍ، ربمّا يأتي المجهول بما يوقظ الذاكرة العربيّة، وتمنحه فرصةً أخيرةً، بولادة أحلام من رحم هذه الذاكرة، كي ينقذ القارب من الغرق.

وأردف قائلاً: هم تسعة أشهر، وستأتي أحلام معلنةً انتصاره على جدران السجن وعلى النسيان، خاض معركته بمفرده ، بعد أنْ جُرِّد من بطولته، وتخلّى عنه الجميع، وتُرك وحيداً في الميدان، خاطَر بكلّ شيءٍ وتحدّى، تسعة أشهر، توازي كلّ سنوات الأسر التي مرّ بها ، تُولد أحلام بعد أنْ مرّت بكلّ مراحل التهريب: طفلةٌ خارج الزمن، وخارج المنطق، وخارج القانون، وبكل تأكيدٍ، خارج الذاكرة العربية!

هي تشبهنا بكلّ شيءٍ، بولادتها تحكي حكايتنا، تروي كلّ شيءٍ، أحلام، اصرخي صرختنا، قولي لهم مَنْ أنتِ،، لا تصمتي،، أيقظي ما تبقّى من الذاكرة العربيّة،، أيقظي ما تبقى من النخوة العربية! قولي لهم: أريد أبي، لقد سلبه الاحتلال حريته وسنوات عمره، وأخذتم انتم بطولته، أريد ما تبقى من أبي، إنّه لي وحدي، أرسلني خارج الأسر كي أدافع عنه، وأصرخ صرخته، وأحكي وأشكو وجعه… أرسلني إلى وطني في هذه الدنيا، بعد أنْ انتظر عشرات السنين، ولم يصله منكم سوى الصمت، ولا شيء غير الصمت، أريد أبي حيًّا، أعيش معه ما تبقى له من عمرٍ، قبل أنْ يتحوّل إلى ذكرى مدفونةٍ في التراب، عندها لن أصدقكم، ولن أصدق كلّ قصائدكم وأشعاركم وأغانيكم، التي تمجد ذكرى أبي.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.